recent
آخر الأخبار

المحاضرة السادسة في مادة أصول الاجتهاد والفتوى د.الوردي


الحمد لله رب العالمين والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا أما بعد :

الشروط الخاصة ذات طابع المعرفي  (شروط  بلوغ مرتبة الاجتهاد )

1-العلم بالقرآن الكريم
-والمقصود بالعلم  : العلم بآيات الأحكام ، وقد أجمع العلماء على أن المجتهد ينبغي له أن يكون عالما بكل الآيات التي تتضمن الأحكام الشرعية  ،لأن الاجتهاد يتعلق باستنباط الأحكام ، والتي بدورها تُستنبط من القرآن  الكريم كمُنطلق ، فلا يمكن له أن يجتهد وهو غير عالم بهذه الآيات ، ويقتضي هذا العلمُ  العلمَ بمختلف علوم القرآن كعلم أسباب النزول والناسخ والمنسوخ وغيرها.
كما اختلفوا في عدد الآيات التي تتضمن هذه الأحكام الشرعية ، وبالعودة إلى كتب الأصول نجد أن مجموعة من الائمة كالإمام الغزالي و الإمام الرازي  وابن قدامة وغيرهم،  قد حصروا آيات الأحكام في 500 آية , ورُوي عن عبد الله بن المبارك أنه حصرها في 900 آية ، والنقطة الأساسية أنه يصعب حصر عدد آيات الأحكام ، بل الإمام القرافي يؤكد على أنه ما من آية إلا وفيها حكم شرعي ، فتشمل القصص أيضا  , وقد برر الإمام الشوكاني من قال بالحصر على أساس أن الأمر يتعلق بالآيات التي تدل على الأحكام دلالة أولية أما الآيات التي تتضمن احكاما بالتضمن والالتزام فيصعب حصرها .

قال الشوكاني :  ودعوى الانحصار في هذا المقدار إنما هو باعتبار الظاهر، للقطع بأن في الكتاب العزيز من الآيات التي تستخرج منها الأحكام الشرعية أضعاف أضعاف ذلك، بل من له فهم صحيح، وتدبر كامل، يستخرج الأحكام من الآيات الواردة لمجرد القصص والأمثال ، قيل: ولعلهم قصدوا بذلك الآيات الدالة على الأحكام دلالة أولية بالذات، لا بطريق التضمن والالتزام.اهـ
قال الطوفي الحنبلي :  قل أن يوجد في القرآن آية لا يُستنبط منها شيء من الأحكام.اهـ
فمثلا قوله تعالى : قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّا تَأْكُلُونَ
يُمكن أن يُستخلص من هاته الآية ما يتعلق بحكمٍ في المجال الاقتصادي ، وهو التخطيط الاقتصادي السليم ، فالخطة التي لجأ إليها يوسف عليه السلام في تدبير أزمة الجفاف والقحط هو اعتماده منهجا قويما يضمن لنا الحفاظ على تلك الموارد من خلال حسن الادخار  ، وهو قوله تعالى :" فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ" ، لكن قبل الادخار لابد من اعتماد أسلوب دقيق وهو مُضاعفة الانتاج وزيادته ، فقال " تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا "، ثم لضمان التخطيط الاقتصادي الرشيد بعد مضاعفة الانتاج وزيادته لابد من ضبط هاته الموارد فيما يحتاجها لضمان التحكم فيها من خلال استغلالها وفق مبدأ الادخار لمواجهة هذه الازمة ، فهذا الذي ذكرناه  إنما يدخل في ضمن احكام تتعلق بالمجال الاقتصادي.
وإذا رجعنا إلى كتب أحكام القرآن نجد أنها تتجاوز ماذكره من حصر آيات الأحكام ، فإذن يصعب حصرها .
-أما ما يتعلق باشتراط حفظ القرآن ، فقد ذهب الغزالي أنه لا يُشترط حفظ كتاب الله بقدر ما يُشترط في المجتهد أن يكون على علم بمواضع آيات الاحكام ، خلافا للشافعي الذي اشترط في المجتهد أن يكون حافظا له وهو ما رجحه كثير من العلماء.

2-العلم بالسنة النبوية
والسنة النبوية هي ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير  ، وحتى لا نقع في مغالطة  تؤثر  في الفهم الصحيح للحديث  ، بعيدا عن تحريف الغالين  وعن انتحال  المبطلين  وتأويل الجاهلين ، لابد من التركيز على جملة من الضوابط التي تعيننا على فهم  السنة فهما صحيحا ، ومن بين هاته الضوابط التي وضعها العلماء :
-الاستيثاق من ثبوت السنة حسب مصادرها الصحيحة ، وذلك من خلال الرجوع إلى المصنفات المرتبطة بالحديث بداءا  بالصحاح فما دونها ، فمادام المجتهد يستنبط الأحكام من السنة فلابد أن يكون هذا المصدر مصدرا صحيحا موثوقا به .
ومادامت الأحاديث ترد بروايات مختلفة فلابد من جمعها  حتى تتضح الرؤية للمجتهد على اعتبار أنه قد يوجد حديث منسوخ مثلا ، ولذلك وجب الجمع بين الأحاديث ككل لاستنباط الحكم  المتعلق بالحادثة .ولابد من التمييز كذلك بين عموم الحديث وخصوصه وما ورد على سبيل التشريع وما ليس كذلك  ، ثم التمييز بين المقاصد الثابتة وبين الوسائل المتغيرة  ، فليس بالضرورة التمسك بحرفية الحديث بقدر ما ينبغي أن نزواج بين النظر المقاصدي  والنظر النصي .
-فهم السنة في ضوء القرآن الكريم
و لابد من الربط بين المصدرين على أساس أن السنة هي بيان للقرآن ،وفهم الأحاديث على ضوء ملابساتها و ورودها  ، فما من حكم جاءت به السنة إلا وكان له أصل في كتاب الله .

3-العلم بمواقع الاجماع والخلاف
بمعنى ان يكون المجتهد على علم بما أجمع عليه العلماء حتى لا يجتهد في أمر يُخالف فيه ما ورد بخصوصه إجماع ثابت،  فيسقط في فتوى شاذة  وهي ما خالفت نصا صحيحا أو قياسا ثابتا جليا ، واختلف العلماء هل يُشترط ان يكون على علم بمواقع بالإجماع إلى حين زمانه، أي العلم بكل ما سبق من قضايا قد وقع عليها إجماع ،  أم أن الأمر يتعلق بالعلم بمواقع الإجماع في المسألة التي هي مجال أو موضوع الفتوى ، واعتمد أصحاب القول الأول على قياس هذا الأمر على القرآن والسنة ، فكما ينبغي العلم  بمختلف النصوص الشرعية المرتبطة بالأحكام فلابد من العلم بمواقع الاجماع  إلى حدود زمن المجتهد، لكن من باب التخفيف كما ذكر الغزالي أن يكون على بمواقع الاجماع في المسألة التي هي محل الاجتهاد .

4-العلم باللغة العربية
وهي من الشروط الأساسية التي ركز عليها  العلماء ، على اعتبار أن اللغة العربية هي لغة القرآن، وما يقوم على أساسه فهم  الخطاب بشكل عام ،  من علوم فرعية لها كالنحو والصرف والبلاغة وغيرها ، فكل ذلك ينبغي على المجتهد أن يكون عالما به ، لكن لا يُشترط بلوغ درجة الأئمة كسيبويه والكسائي وغيرهم بقدر ما ينبغي أن يحيط بمختلف قواعد اللغة التي تمكنه من استنباط الأحكام الشرعية.

5-العلم بأصول الفقه
وهي العلم بالقواعد التي يُتوصل بها إلى استنباط الأحكام الشرعية ، أي القواعد والأدوات التي يعتمدها المجتهد  للوصول إلى الحكم الشرعي وذلك من خلال دراسة قواعد الاستنباط والترجيح وما يتعلق بالدلالات وغيرها  ، كما أن العلم بقواعد الفقه والتي تمثل حكما كليا ينطبق على معظم جزئياته  لابد منها أيضا ، والجمع بينها وبين أصول افقه  أمر ضروري حتى يتمكن المجتهد من امتلاك أليات للوصول إلى الحكم الشرعي .

6-العلم بمقاصد الشريعة
وسنركز على العلاقة بين العلم بالمقاصد والاجتهاد ، إذ سنقتصر في ضبط هذه العلاقة على عنصرين أساسين أولهما الحالات التي يحتاج فيها  المجتهد إلى توظيف مقاصد الشريعة ثم الشق الثاني وهو ضوابط اعتبار المقاصد في العملية الاجتهادية ، فتوظيف المقاصد ليس بالأمر الهين ، وأي إساءة في فهم المقاصد أو في توظيفها  فستؤدي إلى نتيجة سلبية .
ولذلك فالنصوص الشرعية بما تتضمن من أحكام ، تنطوي على مقاصد ، وهذه المقاصد تتضمن جملة من القيم  فعلى المستوى المنهجي يستحيل الخلط بين الجانب المقاصدي والجانب القيمي و الحكمي من الناحية الشرعية ، وهذه النقطة هي القاعدة الجوهرية   في فهم حقيقة النصوص الشرعية  ، فيمكن أن نتعامل معها تعاملا لفظيا  أو تعاملا ظاهريا  أو تعاملا نفعيا  ، بمعنى ذلك التعامل السطحي الذي يرتبط بتحديد الحكم فحسب ، فما من حكم إلا ويتضمن مقصدا  لأن النصوص هي ادوات يُشار بها إلى المقاصد والمقاصد هي روح الشريعة ، وأي مقصد من المقاصد الذي في هو الحقيقة وسيلة ، إلا و ينطوي على جملة من القيم ، والقيم هي الغاية الحقيقية من دراسة المقاصد ، و من غايات هذه القيم هي ضبط السلوك البشري  في إطار تحقيق الغاية  الكبرى وهي تحقيق العبودية لله عزل وجل ، فالمقاصد  تعتبر صلة وصل بين الاحكام والقيم , ولذلك نجد أن بعض الباحثين في هذا المجال يتحدثون عن هذا الارتباط  كعلال الفاسي في كتابه مقاصد الشريعة الذي يركز على أن الشريعة هي أحكام تنطوي على مقاصد و مقاصد تنطوي على أحكام ، كأنه يصعب الفصل بين المقاصد والأحكام لأن المقاصد تُستنبط وتُستفاد من الأحكام  الشرعية ، وبالتالي فالمقاصد هي المنطلق الأساسي لأي عملية إصلاح أو تجديد في إطار فروع الفقه ، كما ان التوظيف الصحيح للمقاصد  يضع حدا للحيل .

مثال بيع العينة
فمن حيث النظر الى ظاهره يبدوا أنه جائز ،لكن بالنظر إلى نية المقصد من  البيع فهو غير جائز لكونه يتم فيه توسيط السلعة بهدف الحصول على ثمن أكبر من خلال دفع ثمن أقل .
إذن فالمقاصد  مهمة جدا في إطار  العملية الاجتهادية ونستحضر نص الشاطبي رحمه الله إذ يقول فيه :
إنما تحصل درجة الاجتهاد لمن اتصف بأحد وصفين :
أحدهما : فهم مقاصد الشريعة على كمالها
والثاني : التمكن من الاستنباط بناءا على فهمه فيها .(وهو خادم للأول)
فللوصول إلى فهم مقاصد الشريعة لتوظيفها في عملية الاجتهاد لابد من التمكن من الاستنباط ، بمعنى أن يمتلك المجتهد قواعد الاستنباط كأصول الفقه وقواعد اللغة وغيرها ، لأن كل هذه القواعد خادمة للعنصر الأول وهو فهم مقاصد الشريعة.
باختصار لدينا مجالين ، مجال إعمال المقاصد  ومجال ضوابط إعمال المقاصد

المجال الأول : مجال إعمال المقاصد 
و نوظف هذه المقاصد في الحالات التالية :
أولا : عند تفسير النصوص والاستنباط منها.
ولتفسير نص شرعي لابد من الاعتماد على المقاصد  لفهم دلالة النص  وذلك بمعرفة إرادة المتكلم ومقصده ، فدلالة الالفاظ على المعاني  المستفادة منه تكون في الغالب تابعة لإرادة المتكلم ولقصده ، فالنص  في الأصل لا يمكن أن يُفهم  من خلال الألفاظ الظاهرة منه ،بل الأمر يتعلق بالوقوف على مقصد المتكلم، إذن لابد من تفسير النصوص والنظر في الألفاظ  الواردة فيها لتحديد الدلالات الاصطلاحية وهذا يتوقف على الاستنجاد بالمقاصد.
ثانيا : في إجراء القياس على الأحكام المنصوصة.
فلا يُمكن أن يكون القياس صحيحا إلا إذا كان مُحقِّقا لمقصود الشارع وحكمته ، كما لا يُمكن أن يُترك القياس على إطلاقه بل يتم تقييده من خلال استحضار المقاصد ، باعتبار أن الأمر يقتضي ترجيح مصلحة ما تتوافق مع مقصِد الشارع .
ثالثا : في الاجتهاد المصلحي  ( المصلحة المرسلة )
أي أن الاجتهاد يقوم على المصلحة
رابعا: في تنزيل الأحكام على محالِّها ( تحقيق المنا ط)

المجال الثاني: ضوابط إعمال المقاصد
بمعنى لا يُمكن توظيف المقاصد بشكل مطلق بل لابد من ضوابط لأنه إذا وُظفت المقاصد مستقلة عن سلطان النصوص  وعن ضوابط الشريعة سيؤدي إلى هتك حرمة الدين ، وبالتالي الافتراء على الله عز وجل تحت ذريعة المقاصد ، كما لا ترقى المقاصد بالاستقلال في إنشاء حكم شرعي بل تُبنى على الأدلة الشرعية .

الضابط الأول : التحقق من مقصود النص الشرعي
ومعنى مقصود النص الشرعي هو المقصِد الأصلي الذي من أجله شُرع الحكم ، وهذا يقتضي التعامل مع النصوص من خلال ما يُسمى بالفهم المقاصدي للنص ، ومعنى التحقق هو التحري والتثبت والتريث من أجل التأكد من أن هذا المقصد المُتَوصل إليه هو المقصد الأصلي الذي شُرع من أجله الحكم ، لأن الدلالة الظاهرة غير مقصودة بل مُتجاوزة في غالب الأحوال ، إلا إذا كان هناك ما يُقوي هذا الاعتبار ، ونتيجة ذلك هو التعمق في فهم النص للوصول إلى مقصد المتكلم وإرادته
يقول اﻵمدي : دلالة اﻷلفاظ على المعاني ليست لذواتها وإنما دلالتها تابعة لمقصد المتكلم وإرادته.
مثال :  قوله تعالى : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً "
ظاهر الآية ابتداءا  كأنها تحدد  ما يَحْرُمُ من الربا وبمفهوم المخالفة إذا لم تكن أضعافا مضاعفة فقليلها جائز في إطار القراءة والدلالة الأولية للنص، لكن ليس هذا هو المقصود ، بدليل أن مجموعة من النصوص الشرعية جاءت حاسمة قطعية لا تفرق بين كثير أو قليل ،فهذه الآية لم تأت لتقييد الربا المتمثل في جواز القليل منها وإنما جاءت لوصف واقع معين والتشنيع عليه ، حيث إن الربا كان في زمان النبوة أكثر تفشيا وأضعافا مضاعفة ، ووجه التحريم متعلق بالزيادة على مبلغ الدين لا على مبلغ أصل الدين ، فلا بد إذن من التحقق والتحري من مقصود النص الشرعي واستحضار قاعدة أن دلالة الألفاظ على معاني ليست لذواتها وإنما دلالتها تابعة لمقصد المتكلم ولإرادته .

الضابط الثاني :  أن يكون المقصد وصفا وجوديا منضبطا
وبكون ذلك إطار تحري الحكمة المقصودة من الحكم الشرعي ، حتى يتمكن المجتهد من التعليل به ،وضبط الحكمة من التشريع سيُساعده على الحكم على القضايا الاخرى التي لم يلتمس فيها دليل شرعي، وبالتالي فالأصل في الأحكام الشرعية هو المعقولية والتعليل وهو يرتبط بمجال المعاملات وليس بمجال العبادات ، فالمعقولية والتعليل تقتضي النظر في الحكمة أو في العلة التي من أجلها شرعت جملة من الأحكام في إطار ضبط السلوك البشري.
مثال : حديث عبادة بن الصامت حينما قال النبي صلى الله عليه وسلم : الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ ، مِثْلًا بِمِثْلٍ ، سَوَاءً بِسَوَاءٍ ، يَدًا بِيَدٍ ، فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الْأَصْنَافُ ، فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ ، إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ
* قوله صلى الله عليه وسلم " الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ " تأكيد على عنصر المعلومية ،دفعا للجهالة وﻷن الجهالة ترتبط بالغرر ، وﻷن الغرر من أصول المفسدة العامة في البيوع ، وجمهور الفقهاء قالوا بأن هذه الأصناف ليست على الحصر خلافا للظاهرية .
* قوله " مِثْلًا بِمِثْلٍ " إشارة إلى المماثلة ومعناها مقاربة التساوي بين البدنين لتحقيق المماثلة ،فلا عبرة للجودة والقيمة .
* قوله " يَدًا بِيَدٍ " إشارة إلى المناجزة ومعناها إتحاد الزمان بمعنى أن الزمن له قيمة في عقود المعاوضات ، فعملية المبادلة ينبغي أن تكون ناجزة والتأخر يؤدي إلى ربا النسيئة .
على ضوء هاته العناصر الثلاثة نحكم على العقد بالجواز من عدمه ، فإذا اتفقت فالعقد جائز وإذا انعدمت فهي غير جائزة شريطة التراضي بين الطرفين وأن يكون محل البيع طاهرا .

3- تحديد مرتبة المقصد في سلم المقاصد :
بمعنى أن المقاصد ليست على مرتبة واحدة بل على مراتب عدة ، فالمقاصد مقصدان  أصلي و يتعلق بالمصالح والمفاسد حسب الوجوب والتحريم ثم مقصود تبعي و يكون غالبا في الوسائل ، فالفقهاء عند دراستهم لمراتب المقاصد قالوا بأن أي حكم يتضمن مقصدا معينا .
و لابد من هذا المقصد أن نميز فيه ما هو مقصود لذاته وما هو مقصود لغيره ، ونأخذ على سبيل المثال نوعين من الأحكام :
-الواجب لذاته ويعتبر وجوب مقصد ، كأداءا الديون فهو واجب لأنه يتعلق بحقوق الغير
-الواجب لغيره ويعتبر وجوب وسيلة ، كالإشهاد في قضية المداينة ، في قوله تعالى :  فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ  وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ  وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ  وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ
معنى هذا :  أن الاشهاد على توثيق الدين في هذه الحالة ، ليس  على الوجوب بشكل دائم وإنما الأمر ينتقل من الوجوب إلى الاستحباب ، بمعنى إذا كانت هناك نوع من الثقة المتبادلة فنتحدث هنا عن وجوب وسائل وليس وجوب مقاصد .
أما بالنسبة للتحريم ، فهو كذلك ينقسم إلى محرم لذاته ومحرم لغيره :
- فالمحرم لذاته وهو تحريم مفاسد لما ينطوي علىه من المفاسد كالربا والغرر خاصة ربا النسيئة .
-اما المحرم لغيره فيكون من باب سد الذريعة كالجهالة ، فعلى سبيل المثال إذا كانت الثمار قبل بدو صلاحها تابعة للأصل الذي هو بيعها  مع الأرض ، فيجوز و تغتفر  تلك الجهالة المرتبطة ببدو الثمار قبل صلاحها ، لكن إذا تعلق الأمر ببيع الثمار بحد ذاتها وليس بالأرض التي توجد عليها تلك الثمار ، فالبيع غير جائز لوجود الغرر.

قاعدة : وما حُرم لذاته لا يُباح إلا عند الضرورة بضوابطها وأحكامها وما حُرم سدا للذريعة يُباح للمصلحة الراجحة
تنبيه :  هذه قاعدية اجتهادية وليس مبدءا ثابتا

مثال :  نجد من الفقهاء من ميز بين ربا النسيئة وربا البيوع ،و أغلب الفقهاء اعتمدوا تقسيم ابن القيم هذا والذي قال بأن ربا البيوع حُرم سدا للذريعة ، حيث إن هذا النوع من الربا لم يكن شائعا عندهم  في فترهم تلك ، ولذلك خففوا من حدة خطورته وآثاره ، فكان تحريمهم هذا تحريما سدا للذريعة و لا يرتقي إلى مستوى التحريم لذاته،  ويبقى هذا اجتهاد منه رحمه الله وقد رُد عليه في كثير من الكتابات المعاصرة.
قال ابن القيم في إعلام الموقعين: الربا نوعان: جلي وخفي، فالجلي حرم لما فيه من الضرر العظيم، والخفي حرم؛ لأنه ذريعة إلى الجلي؛ فتحريم الأول قصدا، وتحريم الثاني وسيلة. فأما الجلي فربا النسيئة، وهو الذي كانوا يفعلونه في الجاهلية، مثل أن يؤخر دينه ويزيده في المال، وكلما أخره زاد في المال، حتى تصير المائة عنده آلافا مؤلفة؛ وفي الغالب لا يفعل ذلك إلا معدم محتاج؛ فإذا رأى أن المستحق يؤخر مطالبته، ويصبر عليه بزيادة يبذلها له تكلف بذلها ليفتدي من أسر المطالبة والحبس، ويدافع من وقت إلى وقت، فيشتد ضرره، وتعظم مصيبته، ويعلوه الدين حتى يستغرق جميع موجوده، فيربو المال على المحتاج من غير نفع يحصل له، ويزيد مال المرابي من غير نفع يحصل منه لأخيه، فيأكل مال أخيه بالباطل، ويحصل أخوه على غاية الضرر، فمن رحمة أرحم الراحمين وحكمته وإحسانه إلى خلقه أن حرم الربا، ولعن آكله ومؤكله وكاتبه وشاهديه، وآذن من لم يدعه بحربه وحرب رسوله، ولم يجئ مثل هذا الوعيد في كبيرة غيره، ولهذا كان من أكبر الكبائر، وسئل الإمام أحمد عن الربا الذي لا شك فيه فقال: هو أن يكون له دين فيقول له: أتقضي أم تربي؟ فإن لم يقضه زاده في المال وزاده هذا في الأجل ...
 وأما ربا الفضل فتحريمه من باب سد الذرائع، كما صرح به في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تبيعوا الدرهم بالدرهمين؛ فإني أخاف عليكم الرما» والرما هو الربا، فمنعهم من ربا الفضل لما يخافه عليهم من ربا النسيئة، وذلك أنهم إذا باعوا درهما بدرهمين، ولا يفعل هذا إلا للتفاوت الذي بين النوعين - إما في الجودة، وإما في السكة، وإما في الثقل والخفة، وغير ذلك - تدرجوا بالربح المعجل فيها إلى الربح المؤخر، وهو عين ربا النسيئة، وهذه ذريعة قريبة جدا؛ فمن حكمة الشارع أن سد عليهم هذه الذريعة، ومنعهم من بيع درهم بدرهمين نقدا ونسيئة؛ فهذه حكمة معقولة مطابقة للعقول، وهي تسد عليهم باب المفسدة. اهـ.

الضابط الرابع : التحقق مما يُظن أنه مقصدا وليس بمقصد
في بعض الحلات قد يعتقد الانسان أن هذا الحكم الذي يرتبط بمعاملة معينة ينطوي على مقصد شرعي ، ويكون هذا المقصد هو الذي تم اعتماده للقول بتحريم هذا الأمر أو بعدمه ، فيحصل عند الشخص مقصد متوَهَّم .

مثال : بيع ما ليس عندك
قلنا بأن الشرط الأساسي في البيع هو الملكية ، والملكية تقتضي أن البائع يتحمل الضمان في الاداء والعين وتلف السلعة ومخاطر تسليم المبيع ، فعندما نتحدث عن الضمان ، نتحدث عن عنصر المخاطرة و هي في حد ذاتها غير مقصودة ، أي ليست مقصدا شرعيا لأنها لو كانت مقصدا شرعيا لكانت الخسارة شرطا لتحقيق مشروعية العائد.

مثال : قصة النفر الثلاث الذين تقالوا عبادة رسول الله صلى الله عليه وسلم
عن أنس بن مالك رضي الله عنه يقول جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم ، قال أحدهم أما أنا فإني أصلي الليل أبدا، وقال: آخر أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني .
فمن خلال سلوكهم هذا اعتقدوا أنه صائب ويحقق لهم مقصدا التقرب إلى الله تعالى.



المحاضرة بصيغة ب دي إف :


اضعط هنا للتحميل


المحاضرة السادسة في مادة أصول الاجتهاد والفتوى د.الوردي



إعداد : فريق عمل مدونة كلية الشريعة والقانون

أخيراً كان هذا موضوعنا لهذه التدوينة، ننتظر مشاركتنا برأيك حول الموضوع وبإقتراحاتك لنستفيد منها في المواضيع القادمة وإذا كان لديك أي سؤال أو استفسار لا تتردد في طرحه علينا سوف نكون سعداء دائماً بالرد عليك في أقرب وقت إن شاء الله تعالى .

 تحياتي ومودتي ولاتنس الصلاة على النبي 

google-playkhamsatmostaqltradent