recent
آخر الأخبار

المحاضرة الثانية في مادة مقاصد الشريعة دة.هاجر جميل


الحقيقة 6 : أن مقاصد الشريعة كانت محل طلب وعناية  من لدن علماء الشريعة في جميع علومها يفزع إليها حين النظر والتفهم والاستنباط والاستدلال , فكانت محل درك الفقهاء المحققين ومحط نظر العلماء المدققين الذين فهموا نصوص الشريعة واستوعبوا  دلالاتها وقد اتضح ذلك من خلال تفسيرهم للآيات القرآنية والأحاديث النبوية وبيان أحكام الدين والمسائل الفقهية وتأسيس القواعد الأصولية وقد ثبت أن الاصوليين كانوا أكثر توجها إلى هذا الفن  لتوجههم في العلم الشرعي إلى التقعيد والتأصيل وقد كانت لهم محاولات في ذلك أعطتهم حق السبق في ضبط موضوع المقاصد حتى إن الباحث في علم المقاصد لا يمكن له أن يتجاوز جهودهم فهي ملازمة لهم ,فمصادر علم أصول الفقه من مصادر علم المقاصد إلا أن هذا الذي كان من علماء أصول الفقه ظل في حدود المحاولة التي تشتمل في إثارة قواعد وأصول تأسس لهذا العلم استمرت لقرون طويلة جعلت منها أي القواعد جزئيات متناثرة عبر أبواب علم أصول الفقه ,صحيح أن جماهير العلماء القائلين بحجية القياس قائلون بتعميم الأحكام ومراعاة مقاصدها ولكن التعرض إلى هذا يأتي غالبا عرضيا ضمن مباحث القياس  ,فكانت جهودهم سببا في إبراز هذه القضايا  المقاصدية  وكيف أن الشريعة جاءت لرعايتها فتكلم بعضهم عن مراتبها ومسالك إثباتها إلى غير ذلك من القضايا .
وقد يثير هذا الأمر عندكم تساؤلا عن مدى امكانية  الاستغناء عن الكتب المخصصة للمقاصد والاكتفاء بكتب أصول الفقه دونها , والجواب أم مثل ذلك لن يكون إلا لمن هو في مثل مقام الإمام الشاطبي أو حاول اقتفاء أثره بأن يكون ملما وبصيرا بجميع ما في كتب أصول الفقه ليأسس على أساسهم ويستكمل ما بدؤوه بجهودهم وقد استوقفني كلام للشيخ ابن عاشور يحوم حول هذا المعنى وفيه يقول :  
على أن معظم مسائل أصول الفقه لا ترجع إلى خدمة حكمة الشريعة ومقصدها ولكنها تدور حول محور استنباط الأحكام من ألفاظ الشارع بواسطة قواعد تمكن العارف بها من انتزاع الفروع منها، أو من انتزاع أوصاف تؤذن بها تلك الألفاظ ويمكن أن تجعل تلك الأوصاف باعثا على التشريع، فتقاس فروع كثيرة على مورد لفظ منها , وربما يجد المطلع على كتب الفقه العالية من ذكر مقاصد الشريعة كثيرا من مهمات القواعد لا يجد منها شيئا في علم الأصول وذلك يخص مقاصد أنواع المشروعات في طوالع الأبواب دون مقاصد التشريع العامة. (  يُقصد ما يأتي في كتب الفقه من بيان لمشروعية الأحكام الشرعية وحكمها المقصودة  بهما كما هو الحال كمشروعية البيع  من الكتاب والسنة والحكمة المقصودة منه ) ومن وراء ذلك خبايا في بعض مسائل أصول الفقه أو مغمور أبوابها، المهجورة عند المدارسة، أو المملولة ترسب في أواخر كتب الأصول لا يصل إليها المؤلفون إلا عن سآمة، ولا المتعلمون إلا الذين رزقوا الصبر على الإدامة، فبقيت ضئيلة ومنسية وهي بأن تعد في علم المقاصد حرية .اهـ
وهذه هي مباحث المناسبة والاخالة في مسالك العلة .

أقول : و مُأدى كلامه رحمه الله : أن مباحث أصول الفقه لم تستوعب مقاصد الشريعة وأن بعض مافيها خفي على غير البصير ممن لم يتصف بصفات الشاطبي ولا قاربها ممن يقتدر  على النفاذ إلى وراء الظواهر بتحليل النصوص والكشف عن مافيها من الأسرار , بل إن علم المقاصد مبثوث في عدد من العلوم الشرعية يحتاج لمن يستخرج قواعده ومسائله كما هو الحال في علم الفقه إذ به تبين له بكثرة الممارسة والاطلاع عليه ( علم الفقه ) أنه مليء بقضايا مقاصدية  لم يتناولها الأصوليون ولاعرجوا عليها ,وهذا كله يأكد ويقرر أن علم المقاصد يحتاج لمن يتبه إليه ويجتهد في لَمِّ وجمع مسائله من جميع علوم الشريعة وذلك الذي صنعه الإمام الشاطبي وعدد من الأعلام والباحثين ولاتزال جهودهم متواصلة إلى اليوم .

الحقيقة 7 :  أن مقاصد الشريعة سبب ووسيلة لتحقق وصف الاجتهاد والتجديد ، حتى أن اﻹمام الشاطبي وغيره من العلماء قرروا هذا اﻷمر ودلو عليه إلى أن تأكد.

يقول اﻹمام الشاطبي : إنما تحصل درجة الاجتهاد لمن اتصف بوصفين :
- أحدهما : فهم مقاصد الشريعة على كمالها .
- ثانيهما : التمكن من الاستنباط بناءا على فهمه فيها .
وقد فصل ابن عاشور القول في احتياج الفقيه إلى معرفة مقاصد الشريعة تفصيلا جيدا يثبت هذه الحاجة في الفقه وقريب من ذلك ماجاء في قول الدكتور الريسوني 
فإذا كانت اﻷحكام الفقهية بأدلتها التفصيلية هي عبارة عن حقائق جزئية فإن نظرية المقاصد هي اﻹطار الكلي الذي ينتظمها ويجمع شتاتها وينسق فيما بينها ,ويعطيها على مابينها من تباعد وتنوع عدا واحدا ومعزى واحدا.اهـ
وان كانت فائدة هذا العلم الانتهاء الى تحقق وصف الاجتهاد فإن أهم غايات هذه المدارسات التي ستجمعنا ان شاء الله ,الشروع في تطلب ذلك القصد والتعرف على أسباب الوصول إليه.

الحقيقة 8 :  أن الدراسة المقاصدية تقوم على علم شرعي دقيق ، له قواعده وضوابطه وأهميته في منظومة العلوم الشرعية دلت على طلبه الشريعة بمجموع أدلتها كما علمتم ,فيلزمكم أن تُقبلوا عليه لإجابة ذلك المطلب  ,فيتحقق بكم ما يرمي إليه الغرض .

يقول ابن بية: إن البحث عن المقاصد مطلب شرعي فُهم من القرآن الكريم من سياقين أولهما صريح وثانيهما بالتلميح من خلال تظافر نصوص التعليل في مقامات اﻹيجاب و التحريم والتحليل , فالسياق اﻷول دعوة إلى التدبر والتفكر في آيات الكون ، أما السياق الثاني فهو تعليل اﻷحكام  وإبراز الحكمة والمصلحة في نصوص القرآن الكريم وهو تنبيه على المقاصد وتربية للأمة على البحث عنها كما أبرزه الأصوليون في كتاب القياس.اهـ

والاقبال على هذا العلم له شروط وضوابطه التي ينبغي توافرها حين الطلب لهذا العلم وإلا وقع الطالب في مزالق تعود عليه بنقيض ما قصَد وقُصِدَ من هذا العلم فالمقاصد الشرعية علم دقيق يحتاج الخائض فيه إلى الإحاطة بعلوم الشريعة , ومن ثم فلا يعرج إليه إلا ثلة من العلماء وقليل ما هم الذين يلجون فيه لدقة مسالكه وخطورة مسائله ,فالخطأ في تقدير معانيه والزلل في تنزيله على الوقائع يفضي إلى فساد كبير في الأحكام المستنبطة تبعا لذلك ,وهنا لابد من التنبه إلى بعض المخاطر التي قد تصاحب الاجتهاد المقاصدي ذلك أن قضية المقاصد أو التوسع  بالرؤية والاجتهاد المقاصدي دون ضوايط منهجية و ثوابث شرعية يمكن أن تشكل منزلقا خطيرا ينتهي بصاحبه إلى التحلل من أحكام الشريعة أو تعطيل أحكامها باسم المصالح, وأظنكم رأيتم مثل هذا في واقعنا وسمعتم به , فتجد من يتكلم باسم الشريعة وهو يدعي الاستدلال بالمقاصد على ما ينقضها ويخالف أحكامها ,فيصلح المفاسد ويفسد المصالح ,فالفكر المقاصدي ليس هو ذلك الفكر الذي تحرر من الظواهر والأشكال وتمرد على الضوابط المنهجية والقواعد اللغوية ,وبدأ يكثر من ذكر القاصد ومن تحديدها وتكييفها حسب رأيه ونظره وأخذ يعتمد على المقاصد في تسويق آراءه وتحكيمها .

الحقيقة 9 :  أن التفات العلماء الى المقاصد الشرعية دلهم عليه قيام الشريعة على اعتبار العقل والنظر ,فما كانت السنن الكونية أمارات شاهدة على أن لله حكما وأسرارا تجلب لعباده المصالح وتدرأ عنهم المفاسد.

يقول علال الفاسي : وقد اعتنى العلماء بتجليتها (مقاصد الشريعة) إيمانا منهم بأن الديانة الاسلامية مبنية على العقل وعلى النظر ,فالحقيقة أن الله لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة المودعة لعباده في نواميسه الكونية التي جعلها هو على ماهي عليه . اهـ
والعقل البشري ليس له إلا أن ينتبه إلى هذه الحكم ليستفيد مما فيها من المصالح ,وقد هيأ الله له ذلك بأن جعل شريعته تنتهي إلى تآلف العقل والدين وتزاوجهما في اكتشاف أوامر الله واحكامه وسننه في خلقه, فالعقل المقاصدي الذي بناه القرآن والسنة انطلق من الوحي وارتكز على التفكير و توجه صوب الفطرة الانسانية واستخدم الأسلوب البياني والبرهاني ووثق طُروحاته بشهادة الواقع وأفاد من عبرة التاريخ ومصائِرِ الأمم بسبب فساد تعاطيها للأسباب, وعَرَض مشاهد لواقعها في العقيدة والعبادة والسياسة والتشريع والفكر و الثقافة والعادات والأخلاق, فالعقل الذي نشأ على الوحي المؤَيِد لما في الفطرة الانسانية له أن يكشف بعض المقاصد الشرعية ويجليها فيتأكد عنده ما تقرر في عقيدته من أن الله سبحانه وتعالى لا يأتي إلا بالخير والعدل والمصلحة ,فنظرية المقاصد يُنتجها النظر العقلي المنطقي القويم الذي يرى شريعة الله لايمكن إلا أن تكون شريعة حكمة ورحمة وعدل وإنصاف وشريعة تدبير موزون وتقدير مضبوط, لأن هذه سنة الله المطردة في كل مخلوقاته ولأن هذا هو مقتضى كمالاته سبحانه وتعالى.


المحاضرة الثانية على هذا الرابط :




المحاضرة الثانية في مادة مقاصد الشريعة دة.هاجر جميل 2020



إعداد : فريق عمل مدونة كلية الشريعة والقانون

أخيراً كان هذا موضوعنا لهذه التدوينة، يمكنك الاطلاع على المحاضرة الثالثة تواليا ,ننتظر مشاركتنا برأيك حول الموضوع وبإقتراحاتك لنستفيد منها في المواضيع القادمة وإذا كان لديك أي سؤال أو استفسار لا تتردد في طرحه علينا سوف نكون سعداء دائماً بالرد عليك في أقرب وقت إن شاء الله تعالى .

 تحياتي ومودتي ولاتنس الصلاة على النبي 

google-playkhamsatmostaqltradent